ما قيل في التسامح

التسامح قيمة إنسانية سامية تعبر عن قدرة الإنسان على تقبل الآخر، وتجاوز الأخطاء والهفوات، والتغاضي عن الأذى والجرح من أجل السلام الداخلي والاجتماعي. فهو لا يقتصر فقط على مسامحة من أخطأ أو جرح، بل هو أعمق من ذلك، يشمل التسامح تقبل التنوع والاختلاف في الأفكار والمعتقدات والآراء، وهو حجر الأساس لبناء المجتمعات المتحضرة والقائمة على الاحترام المتبادل والعيش المشترك.

مفهوم التسامح في الفكر الإنساني

ظهر التسامح منذ فجر الحضارات كضرورة اجتماعية وأخلاقية تعزز من وحدة المجتمع واستقراره. عرفه الفلاسفة عبر العصور بأنه الفضيلة التي تمكّن الإنسان من مواجهة الغضب والانتقام بالرأفة والتعاطف. فالتسامح لا يعني الضعف أو الاستسلام، بل هو قوة داخلية تدفع الإنسان إلى تجاوز الضغائن ونبذ الحقد والكراهية، فتحقق بذلك السلام النفسي والطمأنينة.

يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير: «أنا لا أوافقك الرأي، لكنني مستعد أن أموت دفاعًا عن حقك في التعبير عنه.» هنا تتجلى أبعاد التسامح الحقيقي، الذي يعني احترام حرية الآخر حتى وإن كان مخالفًا للرأي.

وعلى الصعيد الديني، يعد التسامح من المبادئ المشتركة في الديانات السماوية، فقد أكد الإسلام على الرحمة والمغفرة كقيم مركزية في التعامل بين البشر، فالتسامح سبيل لتحقيق المحبة والرحمة بين الناس، وهو وسيلة لإصلاح النفس والمجتمع.

أهمية التسامح في بناء المجتمعات

يُعد التسامح عاملاً أساسياً في تعزيز التعايش السلمي بين الأفراد والجماعات المختلفة، وهو مفتاح لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي. في المجتمعات التي تفتقر إلى التسامح، تنتشر النزاعات والصراعات، ويصبح كل فرد أو جماعة في حالة عداء مستمر مع الآخر، مما يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي وانهيار القيم الإنسانية.

التسامح يشجع على الحوار واحترام التنوع، ويقلل من فرص العنف والتطرف، كما أنه يعزز من الروابط الإنسانية التي تقوم على التفاهم والاحترام. المجتمعات المتسامحة تتميز بنمو ثقافي واقتصادي واجتماعي متوازن، فهي قادرة على استيعاب الاختلافات دون أن تهدد وحدتها أو قيمها الأساسية.

التسامح وأبعاده النفسية والاجتماعية

على المستوى النفسي، التسامح يحرر الإنسان من عبء الغضب والكره الذي يؤثر سلباً على صحته النفسية والجسدية. يقول علماء النفس إن التمسك بالأحقاد والضغائن يؤدي إلى زيادة مستويات التوتر والضغط النفسي، وقد يسبب أمراضاً مزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم واضطرابات القلب. بالتالي، فإن التسامح يعد بمثابة دواء نفسي ينقي الروح ويمنح صاحبها راحة وطمأنينة.

أما على الصعيد الاجتماعي، فالتسامح يبني جسوراً من الثقة بين الأفراد والجماعات، ويخلق بيئة من الانفتاح والتقبل، مما يسهل التعاون والتكامل في مختلف مجالات الحياة. هو مدخل للتسامح الثقافي والاجتماعي، الذي يوسع آفاق الإنسان ويجعله أكثر تقبلاً للاختلافات التي قد تكون ثقافية أو عرقية أو دينية.

نماذج عالمية من التسامح

شهد التاريخ أمثلة مشرقة على التسامح، نستلهم منها دروساً في التعامل مع الآخر. من أبرز هذه النماذج شخصية المهاتما غاندي، الذي قاد حركة سلمية ضد الاستعمار البريطاني، واعتمد على مبدأ عدم العنف والتسامح حتى في وجه الظلم والقمع. غاندي جسد مفهوم التسامح كقوة للنضال السلمي والتغيير الاجتماعي.

وفي العصر الحديث، برز نيلسون مانديلا كرمز عالمي للتسامح والمصالحة بعد عقود من النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. رفض الانتقام من خصومه السياسيين، وبدلاً من ذلك عمل على توحيد الشعب من خلال التسامح والغفران، مما أنقذ بلاده من الانزلاق إلى حرب أهلية مدمرة.

التسامح في مواجهة التحديات المعاصرة

في ظل العولمة وانتشار وسائل التواصل الحديثة، ازدادت فرص التلاقي بين ثقافات وشعوب مختلفة، مما يفرض ضرورة التسامح كقيمة أساسية للحفاظ على السلم العالمي. إلا أن هذه البيئة المتغيرة تحمل معها تحديات مثل التعصب والتطرف الفكري والديني، التي تتطلب تعزيز ثقافة التسامح في كل المجتمعات.

تشير الدراسات إلى أن غياب التسامح يؤدي إلى نشوء ظواهر العنف والكراهية الجماعية، وانتشار خطاب الكراهية عبر الإنترنت، مما يستدعي استراتيجيات تعليمية وتوعوية تركز على تنمية قيم التسامح والقبول بين الأجيال الجديدة.

استراتيجيات تعزيز التسامح في المجتمعات

لكي يصبح التسامح جزءًا لا يتجزأ من حياة الأفراد والمجتمعات، يجب العمل على نشر الوعي بأهميته وتعزيز ممارساته من خلال عدة طرق، منها:

• التعليم التثقيفي: إدخال مناهج تعليمية تركز على قيم التسامح والاحترام والتعايش، وتعريف الطلاب بالتنوع الثقافي والديني والاجتماعي.

• الحوار المفتوح: تشجيع الحوار بين مختلف الجماعات لتعزيز الفهم المتبادل وتجاوز الحواجز النفسية والاجتماعية.

• القوانين والتشريعات: سن قوانين تحمي حقوق الإنسان وتجرم خطاب الكراهية والعنف، مع تطبيقها بشكل عادل.

• الإعلام المسؤول: استثمار الإعلام في نشر رسائل التسامح والاحترام بدلاً من بث التعصب والانقسام.

• دور القيادات: تحفيز قادة المجتمع والمجتمع المدني على دعم قيم التسامح من خلال مواقفهم وكلماتهم.

الجدول التالي يوضح أهم أبعاد التسامح وتأثيرها على الفرد والمجتمع:

الخاتمة

يعد التسامح من أرقى الفضائل الإنسانية التي تجمع بين القوة والرحمة، بين العقل والقلب، وهو السبيل الأمثل لتحقيق السلام الداخلي والاجتماعي. المجتمعات التي تتبنى التسامح وتعمل على تعزيزه في كل مناحي الحياة تكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات المعاصرة، وتحقيق التنمية المستدامة والازدهار. إن التسامح ليس مجرد فعل منقطع بل هو أسلوب حياة ينبع من قيم إنسانية أصيلة تستحق أن تُحفظ وتُرعى في كل زمان ومكان.

المراجع:

1. فولتير، مقولات مختارة في الفلسفة والحقوق.

2. دراسات في علم النفس الاجتماعي وأثر التسامح على الصحة النفسية، مجلة العلوم الإنسانية، 2021.